دعت مؤسسةُ الرعاية الصحيّة الأولية للاهتمام بالصحّة النفسية لما لها من فائدة كبيرة في حياة الفرد والمُجتمع وإسهامها في تقدّم الشعوب وتطوير الإنتاجية والأداء وتحسين الاقتصاد، ولآثارها المهمة في حياة أفراد المجتمع ككل وجعلهم يعيشون حياةً سعيدةً، وتمكنهم من الاستغلال الأمثل لقدراتِهم والتأقلم مع متطلبات الحياة، وأن يكونوا قادرين على العطاء بتفانٍ وفاعليةٍ والإسهام في رقي مُجتمعهم وتطوّره.
هذا بجانب الإسهام الكبير للصحة النفسية في الوقاية من الكثير من المشكلات الجسمية والأمراض وتقوية الجهاز المناعي، مؤكدةً على أنه خلال تطوير الصحة النفسية للمجتمع يمكننا أن نوجد أشخاص مستقرين نفسياً قادرين على التعايش مع المجتمع بإيجابية والتأقلم مع الحياة ومتطلباتها، وقادرين على استغلال كل إمكاناتهم وقدراتهم من أجل تحقيق حياة أفضل.
وأكّد الدكتور صبري آدم إدريس، الاختصاصي النفسي الإكلينيكي في عيادة الدعم النفسي بمركز جامعة قطر الصحي التابع لمؤسسة الرعاية الصحية الأولية، على أنَّ الصحة النفسية تتأثر بالعديد من العوامل، منها العوامل الجسمية كالهرمونات والحالة الصحية والوراثة، كما تتأثّر بالعوامل الاجتماعية كالفقر والأوبئة والحروب ومُستوى التعليم، وتتأثر أيضًا بالجوانب النفسية كالتربية ونمط الشخصية وطرق التفكير ومعدّل الذكاء ومهارات التأقلم، وغيرها.
وشدَّد على أنَّ الصحة النفسية كمفهوم لا تقتصر على المرض النفسيّ فقط، بل يشمل ذلك العديد من الجوانب مثل الثقة بالنفس ودافعية الإنجاز ووضع الأهداف وجودة الحياة والرفاهية النفسية والتوازن الانفعالي والأداء الأكاديمي للطلاب والقدرة على تكوين علاقات اجتماعية جيدة وجودة أداء اللاعبين والأبطال الدوليين والمهنيين والفنانين. فجميع هذه الجوانب تهتم بها الصحة النفسية ويسهم تطويرها في المدارس والمصانع والمؤسسات والأندية الرياضية في رقي المجتمعات.
وأوضّح دكتور إدريس أنَّ من أهم مظاهر الصحة النفسية: التوازن الانفعالي والتوافق الاجتماعي والأسري والحالة الجيدة للوظائف النفسية كالقدرة على التركيز والتذكّر والقدرة على اتخاذ القرارات وحل المشكلات والتخطيط للحياة والتأقلم مع ضغوطات الحياة والاستمتاع بالحياة.
وبالمقابل نجد أنَّ مظاهر اختلال الصحة النفسية تتمثل في الانسحاب الاجتماعي والعزلة ونقص الثقة بالنفس والتقلب المزاجي والانفعالي وانخفاض الأداء المهني والأكاديمي وتوقّف الإنجاز وفقدان الاستمتاع بالحياة والدافعية لها، نافياً أن يكون ذلك بالضرورة مؤشراً لوجود المرض النفسي، وموضحاً بأن الدرجات الخفيفة من اختلال الصحة النفسيّة تُعرف بالمشكلات النفسية وليس الأمراض، وقد يؤدي عدم حلها إلى تفاقمها وحدوث الاضطراب النفسي، وأضاف بأنَّ الاضطراب النفسي له معايير محدّدة وشروط ودرجات معينة من الاختلال وأنه يتم تشخيصه من قبل المختصين فقط، وأقلّها أن يؤثّر على حياة الشخص رغم أن الإصابة به شائعة جداً كما تذكر منظمة الصحة العالمية.
وحذّر دكتور إدريس من العديد من انتشار الأفكار النمطية الخاطئة عن الأمراض النفسية والتي يجب محاربتها مثل أنَّ المرض النفسي لا يمكن علاجه، أو أن أدوية علاج الأمراض النفسية تسبب الإدمان، أو وضع اللوم على عامل واحد باعتباره المسبب للمشكلات النفسية كالوراثة، أو أن المريض النفسي بالضرورة لا يفهم ما يجري حوله ولا يميّز الأمور ولا يستطيع العمل أو لن يتزوج ولا يمكنه تحمل المسؤولية، فبعض أصحاب المشكلات النفسية يتفوّقون علينا بالذكاء والتعامل الطيب وروح المسؤولية. وبعد وصم الشخص المصاب بالمرض النفسي أو أهله والخوف منه والنظر إليه على أنه لن ينجح في حياته، من أبرز السلوكيات الخاطئة التي يقوم بها الأخرون اتجاه المصبين بمرض نفسي. فهنالك العديد من العلماء والناجحين والقادة ممن مروا بفترة من حياتهم بمشكلة أو مرض نفسي وتلقّوا المساعدة ونجحوا في حياتهم ونفعوا مجتمعاتهم.
وأكّد دكتور إدريس على أنَّ الأمراض النفسية يمكن الشفاء منها وعلاجها أو على الأقل تحسينها بدرجة كبيرة وحتى المزمنة منها يمكن التعايش معها كالتعايش مع الأمراض الجسمية المزمنة ولكن قد لا يوفّق المريض أو أهله في الالتزام بالعلاج أو مصادفة العلاج الناجع بسبب عدم البحث عنه أو البحث عنه في غير المكان الصحيح، داعياً للسعي لإيجاد جو أسري مستقر وتربية متوازنة من أجل تحقيق صحة نفسية جيدة.
هذا إضافة إلى المحافظة على التوازن في جوانب حياتنا الصحية والنفسية والاجتماعية كالنوم الجيد وممارسة الرياضة والبقاء ضمن شبكة اجتماعية جيدة واتباع نظام غذائي جيد وممارسة الهوايات وملء أوقات الفراغ وتجنب العزلة والتقليل من التفكير السلبي وتقبل صعوبات الحياة ووضع أهداف واقعية وتجنب الإفراط في الإيجابية وتجنب الطرق السلبية لمواجهة الضغوطات كالتدخين والانسحاب من المجتمع وغيرها.
وحذّر دكتور إدريس من التردد في طلب الاستشارة عند ملاحظتنا لأي مؤشر لاختلال صحّتنا النفسية أو صحّة من حولنا، مؤكداً بأن هناك العديد من المختصين في المؤسسات الصحيّة الحكومية والخاصة يمكنهم تمييز إن كنا فعلاً نحتاج للتدخل أم لا ويمكنهم مساعدتنا في ترتيب أفكارنا والتعبير عن المشكلات باستخدام أدوات مختصة، كما يمكنهم مساعدتنا في حل المشكلات قبل تفاقمها بطرق علمية وسهلة في عيادات معدة خصيصاً لذلك.